لم تتوقف قضية الخدمة والإهتمام بالشؤون الاجتماعية لديه عند حد دون حد، أو بلد دون بلد بل كان للامة بحق بمثابة الاب المشفق على ابنائه والمرجع الاعلى لهم، ومثلا لقيادة أهل البيت عليهم السلام، الذين هم خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله، الذى يصفه الله تعالى بقوله (بالمؤمنين رؤوف رحيم)، وقد تجلت هذه المشاعر الابوية بشكل عملي واضح في كل يوم من ايام حياته الشريفة، وخصوصا في المحن والشدائد ألتي حفل بها تاريخ هذه الامة المعاصر.
كان الإمام الراحل يحمل بين جنبيه قلبا كبيرا يتحرق ويتألم لمعاناة المسلمين، ولم يكتف بالتحرق الصادق بل قام بكل ما كان بوسعه لمساعدتهم عمليا، وتخفيف معاناتهم. وكان رضوان الله تعالى عليه يتابع بنفسه اخبار المسلمين ويصرف وقتا غير قليل من وقته الثمين، لمتابعة أهم الأخبار ألتي تتعلق بالإسلام والمسلمين، وطالما كان يؤرق ويترك النوم جرّاء حادثة محزنة يمني بها المسلمون هنا أو هناك ويمكن تناول خمسة محاور رئيسية لتوضيح إهتمام ورعاية الإمام الراحل بشؤون الامة:
أولا : الحوزات العلمية :
لقد تجاوزت رعاية الإمام الراحل رضوان الله تعالى عليه للحوزات العلمية كل الحدود السابقة ألتي كانت مألوفة قبل مرجعيته العامة. فبعد أن كان الإهتمام منصبا على رعاية طلاب ومدرسي حوزة النجف الأشرف وقم المقدسة ومشهد المقدس في خراسان، فقد توسع إهتمام الإمام السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه ليشمل الحوزات العلمية في كل المدن العراقية والإيرانية بتوسع أكثر، فشمل المدارس العلمية في باكستان والهند، ثم تايلند وبنغلاديش، ثم افريقيا، ثم اوروبا وامريكا.
وكذلك من جانب الرعاية المالية حيث لم تشهد الحوزات العلمية ازدهارا معاشيا في عصورها المختلفة كما شهدت تحت رعاية الإمام الخوئي رضوان الله تعالى عليه.
ومن جانب التوسع الكمي والكيفي اللذين شهدتهما الحوزات العلمية تحت توجيهاته ورعايته، فيكفي ذكر انه أمر بإنشاء عشرات المدارس العلمية ألتي أصبحت مراكز للتعليم والتعلم في بلاد كثيرة، نذكر بعضا منها في بلاد الهند وبنغلادش، كمدرسة صاحب الزمان في كهولنا – بنغلاديش، ومدرسة أهل البيت في هوالي - البنغال الغربية، ومدرسة أميرالمؤمنين ألتي تعد اليوم نموذجا للحوزات العلمية في تلك البلاد، ومدرسة الإمام الباقر عليه السلام في بهيوندي، ومدرسة الإمام المهدي في علي ئور، والمدرسة الإيمانية في نبراس والحوزة العلمية في حيدر آباد، بالإضافة إلى كثير من المدارس المنتشرة في أنحاء البلاد الهندية ألتي أنشئت بأمره، أوألتي تم احياؤها بعد أن اضمحلت بسبب صروف الدهر.
ولن ينسى أربعون مليون مسلما شيعيا في الهند، أن الإمام الخوئي رضوان الله تعالى عليه، كان محيي الحوزات العلمية والمراكز الدينية وباعث النهضة الإسلامية الجديدة في ربوع تلك البلاد الواسعة.
وأما في باكستان فقد تأسست العشرات من المدارس العلمية وازدهرت عشرات أخرى بسبب الإهتمام الكبير الذي اولاه هذا المرجع العظيم، وفي افريقيا أنشئت بأمره وتحت رعايته مدارس علمية في عدة بلدان، خرّجت المبلغين الكثر الذين يرشدون الناس إلى دين الحق. وفي بريطانيا انشئت مدرسة السيد الخوئي في لندن للدراسات الحوزوية، وفي امريكا الشمالية انشئت المدرسة الدينية في مدينة مداينا وكذلك في لبنان وسوريا وتركيا، فان رعاية سماحة الإمام الراحل عبر وكلائه قد أدت إلى تطور كبير في وضع طلبة العلوم الدينية في تلك البلاد، مضافا لما قدمه من خدمات جليلة وما أضفى على الحوزات العلمية الرئيسية ومدارسها ومكتباتها ووضع طلابها وأساتذتها كحوزة النجف الأشرف وحوزة قم المقدسة وحوزة مشهد الرضوي، بتوابعها المختلفة المتعددة، ألتي تعتبر اليوم أساس وقوام الحوزات الدينية للطائفة وبإختصار يمكن القول بأن الإمام الخوئي رضوان الله تعالى عليه، كان رائد النهضة العلمية الحديثة وراعيها في العالم الإسلامي الشيعي المعاصر من دون منازع.
ثانيا : المشاريع :
لقد كان الإمام الراحل رضوان الله تعالى عليه ينتظر لسنوات طويلة أن تتوفر لديه الإمكانات اللازمة لإنشاء مشاريع كبيرة يستمر نفعها إلى الأجيال القادمة وتتسع دائرة الإستفادة منها إلى أبعد حد ممكن كان ذلك إدراكا منه بطبيعة ظروف هذا العصر، وضرورة إنشاء المشاريع ألتي ترفع شأن المؤمنين وتوفر لهم مصدرا ومركزا باقيا من مراكز النفع العام، فتوجه رضوان الله تعالى عليه إلى انشاء مدينة متكاملة لطلاب العلم ومدرسي الحوزة العلمية في قم المقدسة وهي اليوم مدينة شامخة باسم ‘‘ مدينة العلم ‘‘ وهي غنية عن التعريف لشهرتها وذيوع صيتها في أوساط أهل العلم.
كما أنشيء بأمره رضوان الله تعالى عليه، مدرسة علمية في مدينة مشهد المقدسة تعد أكبر مدرسة علمية حوزوية في العالم الشيعي أجمع، وهي عماد ومركز الحوزة في الوقت الحاضر، وفي لبنان كان مشروعه الكبير المعروف باسم ‘‘ مبرة الإمام الخوئي ‘‘ دارا للأيتام، تضم اليوم أكثر من الف ومائتي يتيم ويتيمة، يعيشون منعمين بوسائل الراحة والرعاية، وقد شهدت بعض المنظمات الدولية المتخصصة، لهذه المبرة، بأنها من أفضل دور رعاية الأيتام في منطقة الشرق الأوسط.
ومضافا لما ذكر في الهند، فقد تفضل رضوان الله تعالى عليه بالأمر بإنشاء مجمع ثقافي ضخم قرب مدينة بومبي على مساحة من الأرض تقارب المليون قدم مربع، يعد أكبر مشروع اسلامي شيعي في العالم على الاطلاق، يشمل مدارسا وثانويات وكليات أكاديمية، ومدارسا حوزوية، ومعاهدا مهنية، ومستشفى كبيرا، ومسجدا ضخما وتوابعا كثيرة، تجعل من المشروع مدينة متكاملة.
وهذا المشروع الثقافي الخيري الإسلامي العملاق لوحده كاف لبيان عظمة الإمام الراحل وسعة افقه وبعد نظره، وعلوّ همته كما وقد أمر رضوان الله تعالى عليه بإنشاء مشروع تعليمي ضخم آخر في مدينة اسلام آباد في باكستان.
كما وأن مشروع المركز الإسلامي للإمام الراحل مشهور في نيويورك، ومعه مدرسة للاطفال ألتي أصبحت محط آمال المؤمنين هناك، لانها السبيل الوحيد لانقاذ أبنائهم من الضياع في ذلك المجتمع الملوث الفاسد وهناك مشاريع كثيرة تفضل سماحته بدعمها ماديا ومعنويا منتشرة في أنحاء العالم كالمكتبات العامة والمشاريع المتعددة في العراق وباكستان والهند وتايلند وافريقيا وغيرها من البلاد.
وينبغي أن نوضح هنا جانبا هاما آخر من جوانب رعاية سماحته رضوان الله تعالى عليه للمشاريع النافعة، وذلك عن طريق إجازاته السخية للمؤمنين بدفع الحقوق الشرعية المتعلقة بذمتهم للمشاريع الخيرية العامة مباشرة، ولا نبالغ اذا قلنا أن الألوف من المدارس والمساجد والحسينيات ودور الأيتام والمستشفيات والمستوصفات وغيرها من مشاريع الخير لم تكن تنجح وتتطور لولا إجازات سماحته ودعمه المادي والمعنوي لها، وهي منتشرة في أنحاء المعمورة، ويحتاج رصدها إلى كتاب ضخم.
كما أن رعايته رضوان الله تعالى عليه للامة تجاوزت ذلك الحد وتعدته إلى تشجيعه للرجال المخلصين أن ينظموا صفوف الأمة وينظموا أعمالها ومشاريعها وخدماتها. فكان رحمه الله تعالى، يشجع كثيرا ويؤكد على (تنظيم الأمور) في الأعمال الدينية والخيرية والإجتماعية ولقد لقيت منه الجمعيات الشيعية المعروفة والنشيطة في مختلف البلدان كل الدعم والأسناد والتأييد، بل أجاز بعضها بإستلام الحقوق الشرعية وصرف جزء منها في المشاريع النافعة للامة.
وكم هو ضروري لنا وللعاملين جميعا الإستمرار على هدى مرجعنا الأعلى الراحل رضوان الله تعالى عليه، والسير قدما في تنظيم صفوف المسلمين وأتباع أهل البيت عليهم السلام وتنسيق جهودهم، ففي ذلك عزهم وفوزهم في الدنيا والآخرة.
ثالثا : مواقفه في معالجة أضرار الكوارث الطبيعية :
كان الإمام الخوئي رضوان الله تعالى عليه سبّاقا لإغاثة الملهوفين ونجدة المنكوبين في أية بقعة من بقاع الأرض يسكنها اتباع آل البيت ويتوطن فيها التشيع، وليس أدل على ذلك من موقفه الرائع لإغاثة المنكوبين في الزلزال الأخير الذي ضرب أجزاء من شمال ايران، حتى أسعفهم بمبلغ تجاوز المليون دولار امريكي لإعادة الإعمار وبناء وتعمير المدارس والمنازل والمرافق العامة والقرى المتضررة، وكذلك مساعدته الفورية لمنكوبي الخسف الذى أصاب كركيل في كشمير قبل بضع سنوات، وكذلك مساعدته لضحايا الجفاف في الهند.
رابعا : مواقفه في الأزمات والمحن :
كان حريصا على متابعة الأزمات والمحن ألتي يتعرض لها المؤمنون والمسلمون في انحاء الأرض ويسعي بكل جهده لمساعدتهم ففي ايام الحرب العراقية الإيرانية قدم رضوان الله تعالى عليه لمنكوبي ومشردي الحرب كل انواع الرعاية والمساعدات الممكنة. وكان في الوقت نفسه طودا شامخا أمام الظالم الطاغية الذي حاول بكل وسائل الضغط والإيذاء أن ينتزع منه ولو كلمة واحدة لصالح نظامه الجائر فلم يفلح وانتصر الصبر الحسني والجهاد الراسخ للإمام الراحل رضوان الله تعالى عليه على ظلم الطاغية ودهائه خصوصا أن المعونات والخدمات كانت متواصلة في المدن على طرفي النزاع تقدم المساعدات وتقدم الخدمات للمتضررين المقهورين في ايران والعراق طوال ثمان سنوات من الحرب وبعدها.
وكان موقفه رضوان الله تعالى عليه من محنة المسلمين في افغانستان واضحا جليا، فقد قدم كل انواع الدعم، حتى انه أجاز المؤمنين بدفع الحقوق الشرعية لتمويل عمليات الجهاد ضد الغزاة السوفيت وكان رضوان الله تعالى عليه يرسل مبالغ كبيرة مباشرة لدعم جهاد المؤمنين الأفغان ضد الكفار.
و في لبنان وفلسطين كان الإمام رضوان الله تعالى عليه يشجب باستمرار أعمال اعداء الإسلام، ويستنهض المسلمين لجمع صفوفهم في مواجهة عدوهم، وكان اضافة إلى ذلك يرعى فقراء لبنان بتوزيع المواد الغذائية عليهم، ويدعم الوجود الإسلامي لهم بكل الوسائل الممكنة.
كما وفي أثناء غزو الكويت من قبل النظام الجائر في العراق عام ١٩٩٠م، كان للإمام الراحل رضوان الله تعالى عليه أروع المواقف في احتضان أبناء الكويت المشردين والمنكوبين، فقد أمر وكلائه في كافة البلاد ألتي تواجدوا فيها، لإحتضان أبناء الكويت المشردين من بلادهم، وبدفع مبالغ كافية لرعاية شؤونهم وعوائلهم، إلى أن انجلت الأزمة، وأصدر فتواه الشهيرة إبان الغزو الغاشم، بحرمة الإستفادة او البيع والشراء من مسروقات الكويت، وهو يرزخ في العراق تحت سلطة النظام الجائر الذي لا يرحم.
وكذلك موقفه الخيّر في مساعدة المظلومين من المهربين العراقيين قبل الإنتفاضة الأخيرة وبعدها في الخارج، ورعاية أهليهم في الداخل، وغير ذلك من المواقف ألتي تثبت أنه كان رضوان الله تعالى عليه، كهفا يلوذ به اللائذون ويلجأ اليه المؤمنون.
خامسا : تأسيس مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية :
أمر سماحة الإمام الراحل رضوان الله تعالى عليه بتأسيس مؤسسة خيرية عالمية مسجلة رسميا، تجاوبا مع إحساسه بضرورة إرساء قواعد مؤسسات قوية قادرة على تقديم خدمات مستمرة للمؤمنين فلقد كانت المرجعيات الدينية تبني بنيانها وترعاه، حتى اذا توفي المرجع توقف النمو وتراجع تدريجيا بينما تقوم مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية بوضعها الشرعي والقانوني اليوم برعاية المشاريع الكبرى ألتي أسسها سماحة الإمام رضوان الله تعالى عليه، وهي مؤهلة للإستمرار لوقت طويل جدا أن شاء الله تعالى في خدمة المسلمين.
ان تأسيس هذه المؤسسة بادرة مباركة ترسي مشاريع الطائفة على أسس قوية وتكلف لها الإستمرار والتطور، وهي إنجاز رائع وخطوة شجاعة قام بها المرجع الاعلى الذي ترك لهذه الأمة تراثا ضخما من العلم والعلماء، والمساجد والمدارس، والمشاريع النافعة... وفوق كل ذلك المباديء العظيمة ألتي عاش من اجلها وكرس كل حياته الشريفة لها … الا وهي إعلاء كلمة الله تعالى ورفع راية محمد وآل محمد صلوات الله تعالى عليهم، وخدمة المؤمنين.